دراسات إسلامية

 

نداء الحب في يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم

بقلم:  الدكتور رشيد كهوس (*)

 

 

     كانت السماءُ صافيةً، والربيع ساحرًا، انتشر حيث كنت أجلس قرب روضة الحبيب عَبَقٌ من الأريج والعبير، ورائحة الفُل واليَاسَمين.. مَرَّ بي التفاؤلُ أحدُ أصدقائي القدامى.

     قال: أنت اليوم سعيد جدا، هذه المشاعر الجميلة، وهذه المسرات الحسية، وهذه البهجة والسرور. آه من أين لك هذا؟

     أنا أمتلك أموالا وأولادا وشهرة في الأنام. لكن ما أحسست يوما بهذا الشعور والإحساس، وهذا الفرح الذي أراه على مُحَيَّاك. أنت مُشْرِق المزاج. قل لي: ما سر هذا؟ وهل رغم ما في هذه الحياة من عقبات كَأْدَاء تعيش مسرورا هكذا؟

     قلت: يا عزيزي، لقد علمني الحب أن الحياة مليئةٌ بالأحجار، لكن يجب أن لا أتعثر بها؛ بل أصنع منها سلما يقودني للنجاح. فمن وسط الدُّلجة والحُلكة وبراثين الظلام يبزغ الفجر ويشرق النور.

     أما عن سببِ هــذه البهجــةِ والســرور؛ فإن اليوم يوم ذكرى مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يوم عمَّت فيه المسراتُ قلوب المحبين، وبدا السرورُ على وجهِ الكون والحياة.

     لقد زرعت ذكرى مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذاكرتي ذكريات لن تَنْضُبَ بسهولة.

     قال المتفائل: إني لا أعرف لغة الحب، أرجوك زدني من فضلك! فكلام الحب ينفذ إلى قلبي، حدثني عن هذا الحبيب العظيم الذي تبسم له ثغر الكون، واخضر له زهر الربا، وبعث الروح به في الحياة.

     قلت: إطلالته رائعة. طلعته بهية. وجهه أبهى من البدر كأن شمس الضحى تجري في ملامحه. جماله سماوي. بهاؤه أزلي. نفَسه أطيب من الطيب. نظراته ربانية تحيي موات القلوب. ابتسامته لؤلئية تضرب في أعماق الفؤاد. صوته عذب وبريء. كلماته رقيقة. عيونه سوداءٌ صافية كالبلّور من أروع ما صاغت يد الله، تلمع كالبرق تفيض بالرقة والحنان. لا تعرف القسوة أو الجفاء.

     حدق عينه من خالص العين.. تضرب أهداب عينيه خدوده النورانية.. مقرون الحاجبين كأنهما هلالين مشرقين.. ناعس الطرف، كحيل العين، براق الثنايا.. جبينه يلوح مثل مصباح الدجى المتوقد.. كفاه كالسندس والإستبرق.

     مربوع القامة في غير سمنة.. بشرته بيضاء مشربة بالحمرة.. فاق بدر السماء حسنا وبهاء، بل اجتمعت فيه كل المحاسن.. نسيم الفجر برقته.. والعسل بطن كفيه.. إن مَرَّ بحي حلت به الأنوار.. أو هَلَّ به أزهرت الأغصان.

     إذا نطق حيَّر العقول بجوامع كلمه.. وإذا سكت أبهر الألباب بهدوئه وسكينته.. يشع من كلامه النور في كل اتجاه.. كامل الأوصاف بل الحسن فيه اكتمل، جمع الله له بين جمال الباطن والظاهر.. وهو فوق الوصف.. إنه اصطفاء إلهي بحت.. سبحانه.. يصطفي من يشاء ويختار.

(خُلِقتَ مُبَرَّأً مِنْ كُلِّ عَيْبٍ

كَأَنَّكَ قَدْ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ)

     تغير وجه صديقي المتفائل وقال وهو يكاد يطير من شدة الفرح، والدموع تنساب من عينيه على خديه: إن روحي أصبحت خصبة جدًا بذكرك هذا النبي العظيم -صلى الله عليه وسلم-. ومثل تحفة فنية رائعة أضفت الانسجام والهدوء على حياتي الروحية والنفسية.. لقد هزني حديثك، وبعث فيّ الأمل، فالدنيا بخير ما دامت روحانية مثل هذا الحبيب العظيم والمصطفى الأمين -الذي يأخذ جماله الأبصار والأرواح سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - تسري فيها...

     قلت: ذكر سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- يهز الإنسان الحي، حبه يحرر من الخوف والضياع..

     قال: كنت قبل أن أسمع حديثك عن هذا الرسول الكريم أعاني من كسوف الروح؛ والآن بدأت الحياة تسري في كياني، والسعادة في قلبي.. لقد ألهبت مشاعري وهيجت عواطفي.. فأرجوك زدني حديثًا عن حبه وصفاته حتى كأني أراه؛ فربما لا أعيش إلا لحظات.. فألح عليّ ووجهه غارق في الدموع...

     وبدأ عطر ذكر الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يملأ المكان.. والقلوب تتحرك تحس بشيء غريب.. وكأن الحبيبَ الطبيبَ -­صلى الله عليه وسلم- قادم.. فكانَ الأمرُ كذلك إذ طلع هلال شهر ربيع الأول وأشرقت شمس الثاني عشر منه، وأشرقت معه ذكرى ميلاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكأنه حي بيننا بطلعته البهية..

     فإذا بصديقي بالحديث عن صفات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشمائله وأخلاقه الكريمة يجد نسيمًا عليلًا ومنظرًا جميلًا يأسر كل القلوب، ويزيل كل الهموم والكروب، ويملأ القلب فرحًا وسعادةً ونشوة وسرورًا.. وقال بصوت شاد مثير: لم أعرف الحب ولا كنت ممن يدخل الحب قلبه، لكن من يسمع أخلاق نبي الأمة ومنقذها وصفاته يهيم ويعشق.. ولم أكن ممن يؤمن بسحر الجمال السماوي، حتى فاجأني اليوم سحر جماله..

     كنت أنتظر شخصًا يدخل حياتي فيمنحني السعـادة والبهجة طول عمري فكان حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذاك الشخص الــراقي الــذي اقتحم حياتي، وأضرم نيران الحب في أعماقي.. كان قلبي في انتظاره منذ زمان..

     هو -صلى الله عليه وسلم- بالنسبة لي كل شيء في حياتي، هو عمري ومستقبلي وحاضري وأحلامي، هو سعادتي ومنيتي وأملي، هو من ينبض له قلبي.. هو قمر يضيء سمائي.. هو الحب والحبيب.. هو الكنز الذي كنت أبحث عنه، لقد عثرت على الطريق الصحيح والصراط السوي...

     ثم أنشد يقول:

«وددت بأن الحب يجمـــع كلــــه

فيقــذف في قلبـي وينفلـق الصـدر

لا ينقضـي مـا في فؤادي مـن الهوى

ومن فرحي بالحب أو ينقضي العمر»

... لكن منعته الدموع من إتمام قوافيه...

     وقفل عائدًا إلى بيته والسعادة الكبرى التي عاشها في روضة الحبيب وفي ذكرى ربيع.. والفرح والسرور.. تغمر قلبه..

*  *  *



(*)  أستاذ ورئيس مجموعة البحث في السنن الإلهية بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، ربيع الأول 1437 هـ = ديسمبر 2015م – يناير 2016م ، العدد : 3 ، السنة : 40